الشرق برس ٦ مارس ٢٠٢٣
هذا الكتاب يضيئ على هذه الحالة الإسلامية بكل تفاصيلها.
في كتاب (السلفية والسلفيون: الهوية والمغايرة “قراءة في التجربة اللبنانية”) للراحل الباحث الدكتور عبدالغني عماد، الذي أضاء وبالتفصيل على هذه الحالة المثيرة بكافة تفاصيلها، على مدى 335 صفحة و15 فصلا وبابين، وعشرات المصادر والمراجع، هو كتاب في كتابين أو بحث في بحثين، نقل وذكر التفاصيل الدقيقة الموثقة التي فيها الكثير من الجهود ما يُضيف لـ”مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” المزيد من المصداقية في منشوراتها على أمل نشر ما يفيد الجمهور عن السلفية الشيعية.
ففي الباب الأول، يتوزع الكتاب على 7 فصول، أما الباب الثاني فينقسم إلى 9 فصول. كتاب يُظهر حجم الصبر الذي تميّز به الباحث والوقت والجهد والغنى بالمعلومات والمتابعة والدقة.
“السلفية لم تهبط علينا من فضاء معرفي مجهول ولم تداهمنا بلا سياق تاريخي” هكذا يدخل الباحث إلى الكتاب، فهي انطلقت مع أحمد بن حنبل وأكملت مع إبن تيمية وتلميذه إبن القيم الجوزية، ومن ثم محمد بن عبدالوهاب وإلى حسن البنا وصولا إلى أسامة بن لادن. وبرأي السلفيين إنها عبارة عن تحصين للهوية وحفظها.
فـ”السلفية ليست ظاهرة ثقافوية مُحصنة، بل إنها تستند على مرجعية أحادية السند، وتنهل من الموروث التاريخي والفقهي الإسلامي في سبيل انشاء منظومة خاصة بها”. هذه العودة إلى التاريخ التي يراها المفكر داريوش شايغان “كغطاء إيديولوجي ارتكاسي تعتمده المجتمعات الضعيفة”، التي تُقسّم العالم إلى محورين: محور الشر ومحور الخير.
لم تكن مهمة الباحث سهلة، بحسب قوله، بسبب امتناع التيارات السلفية عن امداده إلا بالمواد التي تناسبها وبشكل انتقائي.
فمقدمة عبدالغني عماد التي أفرد لها عدة صفحات ثرية وتقدّم نوعا من النظرة الموضوعية للملف الذي اعده وبحثه، ويستثير القارئ للمزيد من المتابعة، ويحمسه للمزيد من الاطلاع على عقل فئة من الناس شغلت حيزاً من الوسط العربي والعالمي.
و”السلفية لغة، نسبة إلى السلف أو الجماعة المتقدمين، وهي الاتجاه الذي يدعو إلى الاقتداء بالسلف الصالح، وهم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر الأمة الإسلامية”. ولم تنشأ المذاهب إلا في القرنين الرابع والخامس الهجري على يد إبن حنبل حيث بدأ الصراع مع المعتزلة حول مسألة خلق القرآن. مقابل الأشعرية والماتريدية والمتصوفة والتأويلية.
بعد إبن حنبل تولى إبن تيمية لواء السلف، وفي العصر الحديث أكمل محمد بن عبد الوهاب المسيرة وأخذ التيار نحو مزيد من التشدد. أما أهم مبادئ السلفية، فهي ستة:
1-أولوية النص على العقل،
2-عقيدة الولاء والبراء،
3- التنزيه في التوحيد،
4- الطاعة ودرء الفتن ورفض الخروج على الحاكم،
5- الاقتداء بالخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين،
6- رفض البدع.
ومقابل السلفية في السعودية، ظهرت الأصولية في مجتمع متنوع ومتقدم ومدني كمصر والمشرق العربي في ظل احتلال فلسطين وسقوط الخلافة العثمانية والاستعمار الأجنبي.
ففي كل صفحة نجد المعلومات الغنية والتفاصيل المهمة، وهذا يؤكد على جهد الباحث العلمي والهام، وهو يدفع إلى مدخل كبير ورؤية عريضة لفهم ما يجري اليوم في العالم من قبل الجهاديين السلفيين .
خلاصة التقسيم يحضر أمامنا التالي: السلفيون هم ضد كل من الاصلاحيين والحداثيين والأشعرية والمتصوفة، بحيث أنهم اسسوا إسلاما على حسابهم فكفروا البعض واسلموا البعض الآخر الذين هم أيضا قد يكونون من مذهبهم نفسه.
واتخذوا من إبن تيمية طريقا لهم، فـ”من سمات الطرح الوهابي هو أحادية الطرح التي يغلب عليها طابع القطع والحسم، والإلتزام بمعيار ثابت وقيم متجانسة بعكس الفكر التوفيقي التركيبي الذي ينشأ في مناطق العمران حيث التفاعل مع الثقافات الأخرى”.
يُهمش السلفيون الدور الانساني، وتنحصر وظيفتهم بالتلقي، أي الالتزام بالحدود الدنيا للنص والوقوف عند الدرجة صفر للتأويل.
عالج عبدالغني عماد كافة أنواع السلفية بدءًا من “السلفية الألبانية” التي اقتصر عملها على الجانب الدعوي والتربوي، والتي تنسب إلى الشيخ ناصرالدين الألباني (1914-1999)، وهو ألباني هاجر إلى سورية، وقد أثار النقاش بعدم تبنيه للمقاومة وضرورة خروج الفلسطينيين من فلسطين.
ومن ثم يتناول “السلفية السرورية” نسبة إلى الشيخ محمد سرور بن نايف (1938) وشكلت جسرا بين أسامة بن لادن وسيد قطب. ولهذا التيار مناصرين في عدة بلادة عربية كالجزائر ومصر. واشتهرت بالقول بالطاعة العمياء لولي الأمر.
وثالثها: السلفية الجامية، وترتبط بالشيخ محمد أمان الجامي (1930) وقد دعمه بقوة الأمير السعودي محمد بن نايف ماديا وإداريا، مما جعلها جاذبا لكل مهمش، حيث تضاعف عدد الأتباع.
ورابعها: السلفية الجهادية فهي بنظر أتباعها الفرقة الناجية، وهي البيئة الفقهية للسلفية الوهابية.
والملفت هذا الحجم الهائل من الحركات السلفية التي انتشرت في السعودية ومصر والكويت ومن ثم في لندن وصولا إلى الهند، وكلها تلتقي شئنا أم أبينا على مفهوم التكفير للآخر والطاعة للحاكم، إلا ما ندر من حركة الاخوان المسلمين الذين تبنّوا القتال ضد إسرائيل. وقد جمعت السلفية على أنواعها بين “كفرانية النظم” و”جاهلية المجتمع” و”الجهاد للتغيير” و”كمال الايمان”.
العقائد لدى السلفية تتمحور حول توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الصفات والأسماء، وهذه المشتركات تعود لعهد إبن تيمية وتبعه فيها محمد بن عبدالوهاب.
فهو بحديثه عن تفاصيل التفاصيل يتأكد القارئ إنه كتاب علمي دقيق يكشف عن فهم تام لتعابير ومصطلحات الحركة الاسلامية الجهادية وغيرها من الحركات لكأنه واحد منهم.
ونظرا لتعدد الأسماء ولكثرة الأسماء والفصائل والأفكار والمقولات وهذا يستدعي العمل لإصدار كتاب حول مفكر إصلاحي عربي أو شاعر وطني أو أخبار العمليات البطولية للمقاومة الفلسطينية سواء أكانت على يد حماس أو الجهاد.
أما أخطر أنواع السلفية فهي الجهادية التي كفرت المسلمين الشيعة وأباحت دمهم، وتبع تنظيراتها تفجيرات في لبنان وباكستان وافغانستان، بل حيثما وجد شيعة في العالم. في الوقت الذي تناسوا وتجاهلوا الاحتلال الإسرائيلي والأميركي لدول إسلامية وعربية.
وتتفق السلفية الجهادية مع تنظيم الدولة (داعش) في أمور كثيرة. فبرأيهم “الرافضة طائفة شرك وردّة” و”قتال المرتدين أولى عندنا من قتال الكافر الأصلي”. لكن “القاعدة اختلفت مع التنظيم الدولة في التقديرات والأولويات”. فمعضلة تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) هو توّحشه، خاصة بعد انضمام ضباط حزب البعث العراقي إليه بُعيد احتلال الأميركيين للعراق 2003. ويُعيد الباحث عماد التوّحش إلى شخصيتين بارزتين هما: “أبو عبدالله المهاجر”، و”أبو بكر ناجي” الذين تأثر بهما أبو مصعب الزرقاوي، ورفض منطقها أيمن الظواهري لخطورته في معركة الإعلام.
في كتابه “مسائل من فقه الجهاد” لأبي عبدالله المهاجر، يُبرر المهاجر مشروعية قطع الأعناق وضرب الرؤوس، وكل ما عُرف عن “تنظيم الدولة”، إضافة إلى “عشرات الصفحات عن الشيعة الذين يصفهم بالرافضة، مشجعا على قتلهم والاقتصاص منهم بوصفهم الأخطر على أمة الإسلام من جميع الأعداء”.
لو أمكن للقارئ أي قارئ نقل ما في هذا الكتاب عن السلفية لاحتاج إلى كتاب لما فيه من غنى وتفصيل وشرح ومقارنة وتفكيك وتقابل.
ويبقى السؤال: هل كان النبي محمد (ص) يظن أن المسلمين سيشوهون صورته إلى هذا الحد بهذا التشدد المُستند إلى فتاوى وتفسيرات وإلى شيوخ وعلماء ومدعي دين ، وكله باسم الدين وإتباع السلف الصالح؟؟؟
وقد عمد السلفيون إلى الانتقائية في الأحاديث والشخصيات فبعد الرسول والخلفاء والتابعين وقع اختيارهم على ما يناسبهم من بين الأئمة الأربعة، فيختارون أحمد بن حنبل، وهو المعروف بتشدده، وينبذون الأشاعرة والمالكية، وكل من يعاكس فتاواهم. فـ”المعتزلة والصوفية والفلاسفة والفرق الأخرى كلهم خصوم… والأشاعرة والماتريدية”.
وفي العصر الحديث انضم إلى اعدائهم المفكرين النهضويين والإصلاحيين كالطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي والأفغاني وخيرالدين التونسي ورشيد رضا…
وتميّزت السلفية التقليدية بمبدأ عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم على عكس السلفية الجهادية.
ومع بداية النصف الثاني من الكتاب يستمتع القارئ بالرصد والكم الهائل من المتابعات الميدانية، والتي تفيد شبكات الرصد والاستخبارات والمستشرقين والاستقصائيين كونه يقدم كافة المعلومات على طبق من فضة.
ويلفت الباحث إلى أن انتشار السلفية الوهابية لم يكن سهلا في الحواضر اللبنانية المدينية التي ينتشر فيها المذهب الحنفي أو الشافعي نظرا لعلاقة بيروت السابقة بالأزهر الشريف.
وكانت بداية السلفية مع الشيخ سالم الشهال (1992-2008)، واستمرت باقامة عدد كبير من المدارس والشيوخ نظرا لارتباطهم بالمعاهد في كل من السعودية وقطر والكويت، والإمارات التي لم يأت الباحث على ذكرها في الكتاب،
كما هو حال الحوزات على الصعيد الشيعي في النجف وقم يعود السلفي من الأزهر منفتحا أو من السعودية متشددا. ويبقى لبنان مهبط الأفكار والنوازع والمدراس والتيارات الإسلامية في الخارج. وهذا “ما يُعيق توحيد الناشطين السلفيين. وقد غذّت الانقسامات بين المدارس السلفية المزيد من الانقسام اللبناني في كل من الشمال والبقاع الأوسط والغربي والمخيمات وصيدا، وفي كل مكان فيه وجود للمعاهد الدينية الشرعية السنيّة.
فالسلفية التقليدية تسير وفق شيوخها في الخليج العربي، وكذلك السلفية السرورية، أو الحركية أو السلفية الجهادية. فما سر التناقض الكويتي تجاه شيعة لبنان فشيوخه دعموا السلفية، وحكومته دعمت شيعة لبنان، وعلى رأسهم نبيه بري رئيس مجلس النواب الشيعي لاعمار القرى الجنوبية بعيد عدوان تموز 2000 في السعودية والكويت للمدارس السلفية المتشددة بصيغتها العنفية لمحاربة المد الشيعي والفارسي، مقابل الغياب التام لمحاربة إسرائيل! خاصة أن مجموع ما وصل من مبالغ من “جمعية إحياء التراث الإسلامي” السلفية إلى “جمعية الهداية والإحسان” مثلا وصل إلى 3 مليون دولار أميركي. فما بالنا بكميات الأموال السعودية والإماراتية والقطرية التي وصلت للجمعيات السلفية ككل؟ أين ذهبت وكيف صُرفت في منطقة تعتبر من أشد المدن فقرا على ساحل المتوسط (طرابلس).
ففي ظلّ النظام اللبناني الذي لا يُلزم الجمعيات بالاعلان عن مصادرها، نقرأ عن السلفية في لبنان التي تشبه شبكة الكهرباء الخارجة من علبتها إذ لا يمكن استيعاب تفرعاتها.
وباسم اللاجئين السوريين دخلت الجمعيات السلفية للعمل الاجتماعي، فزادت وارداتها من الخليج العربي، وهم الذين خذلوا اللاجئين الفلسطينيين الأحوج للإعانة في ظلّ تراجع دور “الأونروا”.
ففي الفصل المتعلق بلبنان يرصد الباحث الحروب الداخلية والمعارك والصراع السوري السني بعيدا عن السلفية، لكنه يصب في خانة تأييد الشارع السنّي للسلفية المتشددة بسبب السياسة السورية في لبنان.
وجدت السلفية الجهادية مكانا مناسبا لها بسبب انتشار حزب الله واطلاق يده في مقاومة اسرائيل وعلاقته الجيدة مع النظام السوري، فتوالت الحرب مع السلطة الأمنية اللبنانية من اغتيال نزار الحلبي إلى اغتيال القضاة الأربعة في صيدا إلى قضية أبو محجن، ومن ثم معركة جرود الضنية، ومعارك طرابلس وعرسال ومجموعة القرعون في البقاع الغربي والشيخ أحمد الأسير في صيدا وزياد الجراح ومن ثم “أبو عدس” وشبكة الـ13 وشاكر العبسي وفتح الإسلام و…. هذا كله و”لبنان أرض نصرة أكثر منه أرض جهاد” بالنسبة للقاعدة والجهادية السلفية، حيث أن معاركهم مع الجيش اللبناني وخاصة في مخيمي البارد والبداوي وعين الحلوة حيث يحتمي العديد منهم داخله.
يقول الدكتور عماد إن “الآلاف من المقاتلين والاستشهاديين وجدوا طريقهم إلى العراق قبل فتح الاسلام بسنوات، أما الطريق إلى فلسطين فلم تكن يوما من الأيام من أولويات التيارات السلفية الجهادية”… إذ يبدو ملفتا جدا ذهاب عدد كبير من فلسطينيي المخيمات للعراق لمقاتلة الأميركي والشيعي وكل من يخالفهم، في حين أن الصهاينة على بُعد مئات الأمتار سواء من لبنان أو سوريا أو الأردن أو البحر!!!.
فالأخطاء كبيرة والأسماء كثيرة والأموال هائلة والعدو واضح، لكن المموّل ربما مصاب بعمى الحقد التاريخي! فهل وجدوا أن النظام السوري هو الوحيد الذي ظلم شعبه؟ ألم يظلم الشعب العربي بكامله في ظل هذه الحكومات المُنصبّة علينا من قبل حكومات أميركية تدعم في الوقت عينه الاحتلال الصهيوني لفلسطين؟؟؟
كانت ميزة الإرهاب السلفي الانغماسي هو عملهم العنقودي مما يُصعّب السيطرة عليهم أو محاربتهم أو اكتشاف الرأس المدبر لأية خلية ارهابية.
فالتكفير منطقهم، والقتل اسلوبهم، والهجرة فكرتهم، فلو “استردوا، كما جاء في بيان “تيار أهل السنة” في العام 2013 في نقابة الصحافة ببيروت، زمام المبادرة للمقاومة المسلحة ضد العدو ودعموا حركتي حماس والجهاد كحركتين اسلاميتين ضد اسرائيل لكان الطريق سالكا وبالتعاون مع كل القوى الإسلامية في دول الجوار الفلسطيني.
فالتجاذب السعودي الاماراتي القطري الكويتي على الساحة اللبنانية ضيّع السنّة بعد أن كانت مصر وجهتهم، وسوريا الداعمة الكبرى لرئيس الحكومة السني طوال سنين.
