ثقافة

الشخصيات الروائية: هل ترسم طريقها بمعزل عن الراوي؟

بقلم تغريد عبدالعال نقلا عن الميادين

إلى أيّ حد يتدخّل الروائي في رسم حياة شخصيات روايته؟ وهل تستطيع الشخصيات أن ترسم لنفسها طريقاً خاصاً؟

هل ترسم الشخصيات الروائية لنفسها طريقاً بعيداً من الطريق التي اختارها الروائي؟ قد يبدو هذا السؤال غريباً في عالمٍ يُخطّط فيه الروائي مسار شخصياته. لكن تمتلك الشخصيات الأدبية قوّة للتأثير بنا. فنحن لا ننسى غريغور سامسا، مسخ كافكا الذي تحوّل إلى حشرة، و”آنا كارنينا” في رواية تولستوي، وزوجة الطبيب في رواية “العمى” للبرتغالي خوسيه ساراماغو، وغرينوي بطل رواية “العطر” للألماني باتريك زوسكيند.

حتى أن الأدب يقدم لنا أمثلة عن شخصيات أصبحت أكثر شُهرة من أصحابها. فهل يحنّ الروائي على هذه الشخصيات ويتعاطف معها؟ وإلى أيّ حدٍ يتدخّل في حياتها؟ هل نشعر أن هذه الشخصية تُشبهنا ولذلك نتعاطف معها؟ أم أنها تُشبه إلى حد كبير شخصية الكاتب؟

في حوارٍ أجرته معه غواندلين باركسيك يقول الشاعر اللبناني الراحل صلاح ستيتية (1929-2020): “كثيرون هم الكتَّاب الذين يغوصون في اللغة من دون معرفة ما يفتّشون عنه، فيُدْهَشون ممّا يجدونه في النهاية. طالما ردَّد الروائيون ذلك، فهم يقولون إنهم يتّبعون شخوصهم في دروبٍ لا يعرفون شيئاً مُسبقاً عنها. وأنا أعتقد أن الروائيين الكبار هم مَن يقودهم شخوصهم”.

في كتابه “الروائي الساذِج والحسَّاس”، يُحلِّل الروائي التركي أورهان باموق، كيف تؤثّر الشخصيات الأدبية بنا، خاصة بعد أن تطوَّر فنّ الرواية وبدأ بتقديم بُنية أدبية سردية عن الصفات الشخصية للفرد، مشاعره وقراراته، لأن قراءة الرواية تعني البحث في العالم من خلال عيون، أرواح وعقول الشخصيات الروائية لنرى الكون من منظور البطل، من خلال مشاعره وإذا اقتضى الأمر، ومن خلال كلماته.

 الشخصيات

خوسيه ساراماغو (1922-2010): “أنا لا أؤمن ان

الشخصيات  الروائية تتبنّى الحَبْكة والإطار والثيمات، وأهمّ ما يمكن للروائي القيام به هو ابتكار البطل.  إذا نجح في الوصول إليه، فسيهمس للروائي مسار الرواية بالكامل.

ويوضِح باموق أننا بطبيعتنا فضوليون بخصوص شخصية المُدرِّس الجديد، وبشخصية زميلنا والناس من حولنا، لذلك فإن تركيز الرواية القوي على الشخصيات ينبع من هذا الفضول الإنساني جداً.

ويشير إلى أن “الشخصية” لدى دويستوفسكي، تصبح أكثر قوّة وتأثيراً من أيّ جانب من جوانب الحياة الأخرى، لذلك نحن نقرأ دويستوفسكي لفَهْمِ الشخصيات وليس لفَهْمِ الحياة نفسها. “الأخوة كارامازوف” هي رواية عظيمة حقاً، من خلال 3 أخوة وأخيهم نصف الشقيق، يحدث نقاش بين 4 أنواع من البشر، هو نقاش بين 4 أنواع من الشخصيات.

ويضيف أن الباحث إدوارد فوستر ركَّز في دراسته على أنماط الشخصيات في الرواية وأيَّد أن الشخصيات الروائية تتبنّى الحَبْكة والإطار والثيمات، وأن أهمّ ما يمكن للروائي القيام به هو ابتكار البطل.  إذا نجح في الوصول إليه، فسيهمس للروائي مسار الرواية بالكامل.

ويقول باموق، في تجربته الروائية الشخصية :”أبذل قُصارى جهدي للاندماج مع أبطالي، سواء كانوا يشبهونني أم لا وشيئاً فشيئاً أستطيع أن أرى العالم من خلالهم، المحكّ في الأسلوب الروائي ليس الهوية أو شخصيات الأبطال لكن قبل هذا ، كيف يظهر الكون لهم داخل الرواية؟ إذا أردنا فَهْم شخصٍ ما  وتقديم تصوّر أخلاقي عنه، يجب علينا معرفة كيف يبدو العالم من وجهة نظر هذا الشخص. الإبداع الروائي هو خدعة تمكّننا من الحديث عن أنفسنا وكأننا شخص آخر، وعن الآخرين كما لو كنا مكانهم وبمُجرَّد وجود حدود نستطيع من خلالها الحديث عن أنفسنا كأننا شخص آخر، هناك أيضاً حدود للمدى الذي نستطيع من خلاله الإندماج مع شخصٍ آخر. الرغبة في ابتكار الكثير من الأنماط المُحْتَملة للأبطال عن طريق السيطرة على كل الثقافات، التاريخ ، الصنف، الجنس لنتجاوز أنفسنا من أجل أن نرى ونكتشف الكل، هو الرغبة التحرّرية الأساسية التي تجعل قراءة وكتابة الروايات مشوّقة إضافة إلى الطموح الذي يجعلنا ندرك حدود مقدرة شخص ما على فُهْمِ شخصٍ آخر”.

ساراماغو: أنا لا أؤمن أن الشخصيات لهم حياتهم الخاصة وأن الكتّاب عليهم اتّباعهم، يجب أن يكون الكاتب حَذِراً حتى لا يقوم بأمرٍ يخالف شخصية الشخصيات في الرواية، ولكن الشخصية لها استقلاليّتها. لا يمكن أن ينفصل السرد عن الشخصيات في الرواية، فالشخصيات وجِدَت أساساً لتخدم التركيب الذي يريد الكاتب أن يخلقه.

من هنا ندرك أن التعاطف مع الشخصيات هو المقدرة والإلهام أن نكون آخر، وهذا بالضبط ما عبَّر عنه الكاتب الأرجنتيني – الكندي ألبرتو مانغويل في كتابه” شخصيات مُذْهِلة من عالم الأدب”. فقد أعدّ كتاباً كاملاً عن الشخصيات الأدبية التي أثَّرت به وكانت كلماتها مُلْهِمة له في لحظات الألم والشكّ والتردّد، والحب، والمُلفت أيضاً تأثير هذه الشخصيات عليه أثناء الكتابة، إذ أتته نصيحة من هاريت فين، كاتبة قصص التحرّي في رواية دوروثي، حيث كان اللورد بيتر ويمزي الأرستقراطي الذي يعمل لدى البوليس السرّي قد أنقذها من حبل المشنقة ويريد الزواج بها. تحاول هاريت في هذه الرواية كتابة رسالة له، ثم تسأل نفسها: “ما الذي حلّ بي؟” لكنها تجلس وتكتب الرسالة. ساعد هذا الموقف مانغويل في مرات كثيرة على الكتابة وحرَّضه على الاستمرار رغم كل شيء.

في حوار صحفي مع دونزلينا باروسو ورداً على سؤال: هل تفاجئك الشخصيات؟، يقول البرتغالي خوسيه ساراماغو (1922-2010): ”

الشخصيات لهم حياتهم الخاصة وأن الكتّاب عليهم اتّباعهم، يجب أن يكون الكاتب حَذِراً حتى لا يقوم بأمرٍ يخالف شخصية الشخصيات في الرواية، ولكن الشخصية لها استقلاليّتها. الشخصية حبيسة الكاتب، بين يدي أنا، لكنها حبيسة بطريقةٍ لا تدرك فيها بأنها حبيسة. الشخصيات كالدمى المرتبطة بخيوطٍ بين يدي الكاتب، لكنها خيوط مرخيّة. الشخصيات تستمتع بوَهْمِ الحرية، لكنها لا تستطيع أن تقوم بأمورٍ لا أريدها أنا الكاتب، فالكاتب يشدّ الخيوط من فترةٍ إلى أخرى ليُخْبِرهم أنه في محلّ السلطة المُطلقة في عالم الرواية. لا يمكن أن ينفصل السرد عن الشخصيات في الرواية، فالشخصيات وجِدَت أساساً لتخدم التركيب الذي يريد الكاتب أن يخلقه. فإذا قمت بإبداع شخصية في القصّة فأنا أعرف السبب لإيجادها وما أريده منها، صحيح أن الشخصية في البداية لم تكن مُكْتَمِلة التكوين، لكنها تتطوَّر مع القصة وأنا مَن يقوم بهذا التطوير، على وجه الدِقّة فأنا أسمح للشخصية بتطوير ذاتها مع السرد وأنا أصاحبها فيه، الأمر أنني لا أقوم بتطوير شخصية عكس ذاتها. وإلا ستبدأ بالقيام بالأمور التي ليس في مُتّسعها القيام به”.

لا يبدو ذلك مُطابقاً لتجربة اليابانية يوكو أوغاوا (1962) التي ترجمت رواياتها إلى العديد من اللغات ومنها العربية، وفي حوارٍ مع دوان بوي قالت رداً على سؤال حول شخصياتها: “لا أشعر البتّة أني المُحرِّك لهذه الشخصيات. ليست بالدمى التي أحرِّك خيوطها بنفسي. إن الأبطال يعيشون حيواتهم بالكامل. أتنحّى جانباً وأكتفي بأن أراقبهم، لست سوى ميكروسكوب ولنقل أيضاً بأني مُسجّل صغير للغاية. أحاول ألا أتدخّل. الأمر صعب، ويجب مقاومة نزعة التحكّم بالشخصيات، لكن حين نتنحّى جانباً وبشكلٍ خفّي، فإن الشخصيات تحتفظ بكامل حريّتها وتفلت منكم لحُسن الحظ. هل هم أشباح فعلاً؟ لست أدري، الأشباح تطاردنا في قلب مساكننا. إن شخصياتي تتموضع في زمانٍ ومكانٍ مختلفين وأنا أسافر بين الإثنين”.

كتّاب كثيرون يوافقون أوغاوا بأن الشخصيات لها حياتها الخاصة، وأنهم يصغون لما تريد أن تفعله الشخصيات في الرواية، ربما لهذا عبَّر الروائي التشيكي ميلان كونديرا  (1929-1967) عن هذا الأمر قائلاً: “إن شخصيات الرواية لم تولَد مثل البشر الحقيقيين، من رَحْمِ امرأةٍ لكنهم ولِدوا من موقفٍ ما، من جملةٍ ما ومن مجازٍ ما، إن شخصيات رواياتي هم كل احتمالات الحياة التي لم أعشها أبداً وهذا هو السبب الذي يجعلني أعشقهم وفي الوقت نفسه أخاف منهم”.

المصادر والمراجع

– كتاب إبن الكلمة (حوارات مع صلاح ستيتية) ،(دار النهار 2004).

– الروائي الساذِج والروائي الحسّاس ، أورهان باموق ترجمة ميّادة خليل، منشورات الجمل 2015.

– شخصيات مُذهلة من عالم الأدب،ألبيرتو مانغويل ترجمة مالك سلمان، دار الساقي 2020.

– لقاء مع الروائي البرتغال خوسيه ساراماغو (موقع ساقية)

– يوكو أوغاوا، دموع السلاحف، ملحق كلمات، جريدة الأخبار، ترجمة محمد ناصر الدين.

– أربع شخصيات تحت طغيان استبدادين، ميلان كونديرا عن خفّة الكائن التي لا تحتمل، وفي لمتعة الكتب، سمي بن معين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى